قطاع التكوين والتعليم المهنيين: ستون (60) عاما، الإنجازات والتحديات

كاتب المقال: أحمد بلقمري

مدير فرعي للدراسات والتربصات

المعهد الوطني المتخصص في التكوين المهني رأس الوادي



كان هذا عنوان وثيقة الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، التي أنجزتها نخبة من أطر وزارة التكوين والتعليم المهنيين[1]، والتي قدمت ضمن أشغال المؤتمر الثالث للوزراء والقيادات المسؤولة عن التعليم والتدريب الفني والمهني في الوطن العربي بالمركز الدولي للمؤتمرات عبد اللطيف رحال بالجزائر، أيام 24-25و26 ديسمبر 2022. الوثيقة توفر منظورًا شاملاً للباحثين المتخصصين والمهتمين بمجال بناء المهارات وتطويرها، يسمح بإلقاء نظرة فاحصة على منظومة التكوين والتعليم المهنيين بالجزائر، وتتبع مسار الإنجازات والتحديات التي تواجهها من أجل تحقيق أهداف التنمية المستدامة، لا سيما ما تعلق بأهداف: ضمان التعليم الجيد والمتساوي والعَميم وإتاحة فرص التعلّم للجميع مدى الحياة، وكذا تحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين كل النساء والفتيات، وتعزيز النموّ الاقتصادي العَميم والمُستدام، والتوظيف الكامل والمثمر، والعمل اللائق للجميع.

وقد جاءت وثيقة الجزائر في محورين أساسيين:

أولا: محور الواقع والإنجازات

        يستعرض هذا المحور، جهود الدولة الجزائرية منذ استرجاع السيادة الوطنية في توسيع، تنويع وبناء قدرات شبكة مؤسسات التكوين والتعليم المهنيين، من خلال: التمويل والإطار المؤسساتي، الموارد البشرية، النصوص القانونية والتنظيمية، بالإضافة إلى تعزيز جودة التكوين والتعليم المهنيين كآلية أساسية لضمان مواءمة التكوين والتعليم المهنيين مع متطلبات سوق الشغل، حيث يقوم على استشراف المهن الجديدة ومستقبل العمل، المناهج والبرامج، تكوين المكونين، رصد نمو وتطور سوق الشغل، الشراكة والانفتاح على المحيط الاجتماعي والاقتصادي، التوجيه والإرشاد المهني، ونظام الجودة. كما يتناول هذا المحور أيضا، ترقية التكوين المهني الأولي والمتواصل والتعليم المهني، وذلك بتعريف أنماطه ومستويات التأهيل وتتويج التكوين، بالإضافة إلى الامتحانات المهنية، وامتحانات نهاية التكوين للدورات لفائدة المترشحين الأحرار، وأجهزة التكوين.

        وفي ذات الإطار، اندرج ضمن المحور الأول، التعريف بالتكوين المهني المتواصل ومسار التعليم المهني، أين تم التعريف به، وبمستويات التأهيل فيه، وتنظيم وتتويج التكوين. كما تقدم الوثيقة عرضا شاملا عن التعاون الدولي، وما أفضته المشاركة في مختلف الهيئات والتعاون متعدد الأطراف مع الدول، وكذا التعاون الثنائي، والتعاون في مجال هندسة التكوين والهندسة البيداغوجية، من خلال عرض لأبرز وأهم التجارب بداية بالتجربة الكندية (المناهج والبرامج)، والتجربة الألمانية (التكوين عن طريق التمهين)، والتجربة البلجيكية (التكوين المتواصل)، والتجربة الفرنسية (التعليم المهني وإنشاء مراكز الامتياز)، كما تمت الإشارة إلى التعاون في مجال تكوين المتربصين الأجانب وتكوين المكونين.

        كما تناولت الوثيقة مسألة الشراكة مع مختلف القطاعات، واستراتيجية قطاع التكوين والتعليم المهنيين في إطار الشراكة، والأهداف المحققة منها، بالإضافة إلى تطوير تكوين الفئات الخاصة، وتأطيرها القانوني والبيداغوجي، والامتيازات الممنوحة لهذه الفئات، والدور المنوط بمؤسسات التكوين المهني والتمهين للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة في هذا الإطار.

وركزت الوثيقة أيضا على مسألة تدعيم وتطوير نظام التوجيه والإرشاد المهني، من خلال عرض يخص هياكل الإعلام والتوجيه داخل المؤسسات التكوينية، والشراكة مع قطاع التربية الوطنية، والمساعدة على الإدماج المهني، بالإضافة إلى إدراج المقاولاتية في صميم برامج عمل منظومة التكوين والتعليم المهنيين، كما تم إبراز جهود القطاع في العصرنة والرقمنة ومساهمة تكنولوجية الإعلام والاتصال في التكوين، وذلك عبر الأجهزة والوسائل المتاحة لرقمنة القطاع، والبرامج المعتمدة في عصرنة المجالين: الإداري والبيداغوجي في إطار ترتيبات الحوكمة اللازمة لدعم توليد البيانات واستخدامها بطريقة آمنة وأخلاقية ومأمونة.

ثانيا: محور الاستشراف، التحديات الراهنة والمحتملة لقطاع التكوين والتعليم المهنيين

        إضافة إلى ما سبق ذكره في المحور الأول فيما يخص الواقع والإنجازات، قدمت وثيقة الجزائر عرضا يخص التحديات الراهنة للقطاع من خلال ثلاثة عناصر: حوكمة التكوين والتعليم المهنيين، التمويل ورصد الموارد، وضمان الجودة؛ وهو ما رسمت خطوطه العريضة الإرادة السياسية ممثلة في نص المادتين 65 و66 من دستور الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، حيث "تسهر الدولة على ضمان التساوي في الالتحاق بالتعليم والتكوين المهني" و"تعمل الدولة على ترقية التمهين وتضع سياسات للمساعدة على استحداث مناصب الشغل"؛ وكذا التزامات السيد عبد المجيد تبون رئيس الجمهورية، لا سيما الالتزام التاسع والثلاثين (39)، والذي ينص على: "تشجيع تعليم المواد العلمية والتقنية والتكنولوجية في الثانويات ومراكز التكوين المهني وتكييفها مع البيئة الاجتماعية والاقتصادية للبلاد وتشجيع التوأمة بين المؤسسات الوطنية ونظيراتها في دول أجنبية من أجل انفتاح حقيقي على العالم"، والالتزام الأربعين (40) الذي ينص على:"جعل التكوين المهني وسيلة لترقية فرص تشغيل الشباب وتحريك الاقتصاد والانتاج الوطني".

وهو ما يجسده في الميدان معالي وزير التكوين والتعليم المهنيين الدكتور مرابي ياسين في إطار تنفيذ وإنفاذ مخطط عمل الحكومة (سبتمبر 2021)، والذي يرمي من خلال مسعى عملياتي منسق إلى تجسيد عمليات تستجيب بشكل دقيق وملاءم لتطلعات السكان على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، بحيث أكد المخطط في فصله الثالث المعنون "من أجل تنمية بشرية وسياسة اجتماعية مدعمة"، في الشق المتعلق بتعزيز رأس المال البشري، إلى تحسين النتائج النوعية للمنظومة التربوية الوطنية للتعليم التقني والتكوين المهني من أجل تكييفها مع احتياجات سوق العمل.

بالإضافة إلى ذلك، عرضت وثيقة الجزائر أهم الأفق المستقبلية لقطاع التكوين والتعليم المهنيين على ضوء التحديات التي تواجهه في ظل عدد من المعطيات، أهمها الطبيعة المتغيرة للعمل، مستقبل العمل ووظائف المستقبل، عدم اليقين المرتبط بالتحولات الجيوسياسية الطارئة على المديين القصير والمتوسط الأجل، الحاجة الملحة والطلب المتزايد على البيانات لاستخدامها في دفع عجلة التنمية...إلخ.

        وختاما، يمكن القول أنه من خلال الاطلاع على وثيقة الجزائر تبرز أمامنا أهم السمات المميزة لقطاع التكوين والتعليم المهنيين التي ساهمت في الاستثمار في رأس المال البشري، باعتباره الآلية الرئيسية لضمان مواءمة نواتج التكوين (المخرجات) مع المهارات المطلوبة في السوق وفرص العمل اللائق، فالتجربة الجزائرية الغنية والمتميزة والرائدة، تبدو ملهمة من خلال رؤيتها، أبعادها، وأسسها، وأكثر قدرة على الصمود والتكيف أمام التحديات التنموية الاقتصادية، وتحديات مستقبل العمل، والعالم الذي يسوده عدم اليقين الاقتصادي، السياسي والاجتماعي.

وعلى الرغم من النتائج المحققة منذ استرجاع السيادة الوطنية، وبناء منظومة وطنية لتطوير المهارات، غير أنه لا يزال هناك الكثير من العمل في المستقبل لتعزيز كفاءة هذه المنظومة بحيث تكون مقاومة ومستدامة بغرض الاستجابة للطلب الكبير على المهارات ذات القابلية للاستخدام في عدد من القطاعات والميادين الاجتماعية، الاقتصادية والبيئية، وفي الوقت ذاته تحقيق التنمية المأمولة على نحو أفضل.

بعض أعضاء فريق العمل الخاص بإعداد وثيقة الجزائر في المؤتمر




[1]  أنجز هذه الوثيقة فريق من المؤلفين العاملين بقطاع التكوين والتعليم المهنيين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أجهزة دعم وتشغيل الشباب

أجهزة دعم وتشغيل الشباب